قصة كوميدية لـ( نجيب محفوظ )
صفحة 1 من اصل 1
قصة كوميدية لـ( نجيب محفوظ )
[center]هذه قصة لنجيب محفوظ قرأتها واستمتعت بها ، وأحببت أن يشركني القارئ في الاستمتاع بها ، وبغض النظر عن شخصية كاتبها وخلفياته ، يبقى أن نقول : إنه مبدع في كتابة القصة والرواية ، ولا يضارعه في ذلك إلا القليل ، ولذلك جاز لأحد الأدباء أن يلقبه بـ( شيخ الروائيين العرب ) ، وهذه القصة التي سأوردها لـ ( نجيب ) ، تتغلغل في نفسية المجانين أو من فقدوا نعمة العقل ، فهي تكشف الدوافع لسلوك المجنون التي يراها العاقلون جنوناً ، بينما يراها المجانين عين العقل ، وتومئ إيماءً أن الحرية المطلقة تقود إلى الجنون المطلق أحياناً ، كما أنها تفسر ظاهرة الجنون وكيف تنشأ ؟ وما هو الجسر المؤدي إليها ؟ ، كل هذا يعرضه نجيب في قالب كوميدي ممتع ، وأترككم مع نجيب محفوظ في قصته ، وأشعركم أنها قد تحتوي على بعض الهنات ، ومثلكم أخبر بها ، فأعتذر على ذلك ، وإليكم القصة:
ماالجنون ؟!
إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت ، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج . أما الباطن ، أما الجوهر ، فسر مغلق . وصاحبنا يعرف الآن أنه نزل ضيفاً بعض الوقت بالخانكة ، ويذكر –الآن أيضا- ماضي حياته كما يذكره العقلاء جميعا ، وكما يعرف حاضره . أما تلك الفترة القصيرة – قصيرة كانت والحمدلله – فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلا حائرا لايدري من أمرها شيئا تطمئن إليه النفس . كانت رحلة إلى عالم أثيري عجيب ، ملئ بالضباب ، تتخايل لعينيه منه وجوه لا تتضح ملامحها ، كلما حاول أن يسلط عليها بصيصا من نور الذاكرة ولت هاربة فابتلعتها الظلمة . ويجيء أذنيه منه أحيانا ما يشبه الهمهمة وما إن يرهف السمع ليميز مواقعها حتى تفر متراجعة تاركة صمتا وحيرة . ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم ، حتى الذين عاصروا عهدها العجيب قد أسدلوا عليها ستارا ، كثيفا من الصمت والتجاهل لحكمة لا تخفى ، فاندثرت دون أن يتاح لها مؤرخ أمين يحدث بأعاجيبها . تُرى كيف حدثت ؟! ومتى وقعت ؟ كيف أدرك الناس أن هذا العقل أصبح شيئاً غير العقل ؟ وأن صاحبه أمسى فرداً شاذا يجب عزله بعيدا عن الناس كأنه الحيوان المفترس؟!
كان إنسانا هادئا أخص ما يوصف به الهدوء المطلق . ولعل ذاك ما حبب إليه الجمود والكسل ، وزهده في الناس والنشاط. ولذلك عدل عن مرحلة التعليم في وقت باكر ، وأبى أن يعمل مكتفيا بدخل لا بأس به . وكانت لذته الكبرى أن يطمئن إلى مجلس منعزل على طوار القهوة فيشبك راحتيه على ركبته ، ويلبث ساعات متتابعات جامدا صامتا ، يشاهد الرائحين والغادين بطرف ناعس وجفنين ثقيلين ، لا يمل ولا يتعب ولا يجزع ، فعلى كرسيه من الطوار كانت حياته ولذته . ولكن وراء ذلك المظهر البليد الساكن حرارة أو حركة في قرارة النفس أو الخيال ، كان هدوءه شامل الظاهر والباطن ، الجسم والعقل ، الحواس والخيال ، كان تمثالاً من لحم ودم يلوح كأنما يشاهد الناس ، وهو بمعزل عن الحياة جميعاً.
ثم ماذا ؟!
حدث في الماء الآسن حركة غريبة فجائية كأنما أُلقي فيه بحجر.
كيف ؟!
رأى يوما – إذ هو مطمئن إلى كرسيه على الطوار – عمالا يملئون الطريق ، يرشون رملا أصفر فاقعاً يسر الناظرين ، بين يدي موكب خطير . ولأول مرة في حياته يستثير دهشته شيء فيتساءل : لماذا يرشون الرمل ؟ ثم قال لنفسه : إنه يثور فيملأ الخياشيم ويؤذي الناس ، وهم أنفسهم يرجعون سراعا فيكنسونه ويلمونه ، فلماذا يرشونه إذن ؟! وربما كان الأمر أتفه من أن يوجب التساؤل أو الحيرة ، ولكن تساؤله بدا له كأخطر حقيقة في حياته وقتذاك ، فخال أنه بصدد مسألة من مسائل الكون الكبرى ، ووجد في عملية الرش أولاً والكنس أخيرا والأذى فيما بين هذا وذاك حيرة أي حيرة ، بل أحس ميلاً إلى الضحك ، ونادراً ما كان يفعل ، فضحك ضحكا متواصلا حتى دمعت عيناه . ولم يكن ضحكه هذا محض انفعال طارئ ، فالواقع أنه كان نذير تغيير شامل ، خرج به من صمته الرهيب إلى حال جديدة ، ومضى يومه حائراً أو ضاحكاً ، يحدث نفسه فيقول كالذاهل : يرشون فيؤذون ثم يكنسون ... ها ها ها !
وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حيرته بعد . ووقف أما المرآة يهيئ من شأنه ، فوقعت عيناه على ربطة رقبته وسرعان ما أدركته حيرة جديدة . فتساءل : لماذا يربط رقبته على هذا النحو ؟ ما فائدة هذه الربطة ؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها ؟ وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس ، وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحيرة ودهشة ، ومضى يقلب عينيه في أجزاء من ملابسه جميعاً بإنكار وغرابة . ما حكمة تكفين أنفسنا على هذا الحال المضحك ؟ لماذا لا نخلع هذه الثياب ونطرحها أرضاً ؟ لماذا لا نبدو كما سوانا الله ؟ بيد أنه لم يتوقف عن ارتداء ملابسه حتى انتهى منها ، وغادر البيت كعادته.
ولم يعد يذوق هدوءه الكثيف الذي عاش في إهابه دهراً طويلا قانعاً مطمئنا. كيف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخناقه على رغمه ؟!
أجل على رغمه . وقد اجتاحته موجة غضب وهو يحث خطاه ، وكبر عليه أن يرضى بقيد على رغمه . أليس الإنسان حراً ؟ وتفكَّر ملياً ثم أجاب بحماس : بلى أنا حر . وملأه بغتة الشعور بالحرية ، وأضاء نور الحرية جوانب روحه حتى استخفه الطرب . أجل هو حر . نزلت عليه الحرية كالوحي فملأه يقينا لا سبيل إلى الشك فيه ، إنه حر يفعل ما يشاء كيف شاء حين يشاء ، غير مذعن لقوة أو خاضع لعلة لسبب خارجي أو باعث باطني. حل مسألة الإرادة في ثانية واحدة ، ,أنقذها بحماس فائق من وطأة العلل ، وداخله شعور بالسعادة والتفوق عجيب ، فألقى نظرة ازدراء على الخلق الذين يضربون في جوانب السبل مسيَّرين مصفدين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، إذا ساروا لم يملكوا أن يقفوا ، وإذا وقفوا لم يملكوا أن يسيروا ، أما هو فيسير إذا أراد ويقف حين يريد ، مزدرياً كل قوة أو قانون أو غريزة . وأهاب به شعوره الباهر أن يجرب قوته الخارقة فلم يستطع أن يعرض عن نداء الحرية . توقف عن مسيره بغتة وهو يقول لنفسه : ( ها أنا ذا أقف لغير ما سبب ) . ونظر فيما حوله في ثوان ثم تساءل : أيستطيع أن يرفع يديه إلى رأسه؟ أجل يستطيع ، وها هو ذا يرفع يديه غير مكترث لأحد من الناس. ثم تساءل مرة أخرى : هل تواتيه الشجاعة على أن يقف على قدم واحدة ؟ وقال لنفسه : فلم لا أستطيع وما عسى أن يعتاق حريتي ؟! وراح يرفع يسراه كأنه يقوم بحركة رياضية في أناة وعدم مبالاة كأنه وحده في الطريق بلا رقيب . وغمرت فؤاده طمأنينة سعيدة وملأته ثقة بالنفس لا حد لها ، فمضى يتأسف على ما فاته طوال عمره من فرض كانت جديرة بأن تمتعه بحريته وتسعده ، واستأنف مسيره وكأنه يستقبل الحياة من جديد .
ومر في طريقه إلى القهوة بمطعم كان يتناول فيه عشاءه في بعض الأحايين ، فرأى على طواره مائدة مليئة بما لذ وطاب . يجلس إليها ورجل وامرأة متقابلين يأكلان مريئا ويشربان هنيئاً ، وعلى بعد يسير جلس جماعة من غلمان السبل ، عرايا إلا من أسمال بالية ، تغشى وجوههم وبشرتهم طبقة غليظة من غبار وقذارة ، فلم يرتح لما بين المنظرين من تنافر ، وشاركته حريته عدم ارتياحه فأبت عليه أن يمر بالمطعم مرور الكرام . ولكن ما عسى أن يصنع؟ قال له فؤاده بعزم ويقين: ( ينبغي أن يأكل الغلمان مع الآخرين ) . ولكن الآكلين لا يتنازلان عن شيء من هذه الدجاجة أمامهما بسلام ، هذا حق لا ريب فيه ، أما إذا رمى بها إلى الأرض فتلوثت بالتراب فما من قوة تستطيع أن تحرم الغلمان إياها ، فهل ثمة مانع يمنعه من تحقيق رغبته ؟ .. هيهات ، وربما كان التردد ممكناً في زمن مضى ، أما الآن فمحال ... واقترب من المائدة بهدوء ، ومد يده إلى الطبق فتناول الدجاجة ، ثم رمى بها عند أقدام العرايا ، وتحول عن المائدة وسار إلى حال سبيله كأنما لم يأت أمراً منكرا ، غير عابئ بالزئير الذي يلاحقه مفعماً بأقذع السباب والشتائم ، بل غلبه الضحك على أمره ، فاسترسل ضاحكاً حتى دمعت عيناه . وتنهد بارتياح من الأعماق ، وعاوده شعوره العميق بالطمأنينة والثقة والسعادة.
وبلغ القهوة فمضى إلى كرسيه واطمأن إليه كعادته ، بيد أنه لم يستطع هذه المرة أن يشبك راحتيه حول ركبته ويستسلم لسكوته المعهود ، لم تطاوعه نفسه ، فقد فقدت قدرتها على الجمود ، أو برئت من عجزها عن الحركة فنبا به مجلسه ، حتى هم بالنهوض ، إلا أنه رأى – في تلك اللحظة- شخصاً غير غريب عن ناظريه وإن لم تصله به أسباب التعارف . كان من رواد المقهى مثله . وكان جسماً ضخماً وأوداجاً منتفخة ، يسير مرفوع الرأس في خيلاء ، ملقياً على ما حوله نظرة ترفع وازدراء ، تنطق كل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته بالزهو كأنما يثير الخلق في نفسه ما تثيره الديدان في نفس رقيقة مرهفة الحس ، وكأنه يراه لأول مرة . بدا له قبحه وشذوذه ، فغالبته هذه الضحكة الغريبة التي ما انفكت هذين اليومين تعابثه ، ولم تفارقه عيناه ، وثبتت خاصة على قفاه يبرز من البنيقة عريضاً ممتلئاً مغرياً . وتساءل : أيتركه يمر بسلام ؟! معاذ الله ، لقد ألف داعي الحرية ، وعاهده ألا يخالف له أمراً ، وهز منكبيه استهانة واقترب من الرجل فكاد يلاصقه ، ورفع يده ، وهوى بكفه على القفا بكل ما أوتي من قوة ، فرنت الصفعة رنيناً عالياً ، ولم يتمالك نفسه فأغرب ضاحكاً ،ولكن لم تنته هذه التجربة بسلام كأختها السابقة ، فالتفت الرجل نحوه في غضب جنوني ، وأمسك بتلابيبه وانهال عليه ضربا وركلاً حتى خلص بينهما بعض الجلوس . وفارق القهوة لاهثاً ، ومن عجب أنه لم يستشعر الغضب ولا الندم ، وعلى العكس من ذلك ألمت بحواسه لذة عجيبة لا عهد له بها من قبل ، وافترّ ثغره عن ابتسامة لا تزايله ، وفاضت نفسه بحيوية وسرور يغشيان أي ألم ، ولم يعد يكترث لشيء غير حريته التي فاز بها في لحظة من الزمان وأبى أن يغيب عنها ثانية واحدة من حياته ، ومن ثم ألقى بنفسه في تيار زاخر من التجارب الخطيرة بإرادة لا تنثني وقوة لا تقهر . صفح أقفية وبصق على وجوه وركل بطوناً وظهوراً ، ولم ينج في كل حال من اللكمات والسباب ، فحُطمت نظارته ومزق زر طربوشه وتهتك قميصه ونغصت ثنيتاه ، ولكنه لا ارتدع ولا ازدجر ولا انثنى عن سبيله المحفوف بالمخاطر ، ولا فارق الابتسام شفتيه ، ولا خمدت نشوة فؤاده الثمل ، ولو اعترض الموت طريقه لاقتحمه غير هيّـاب.
ولما آذنت الشمس بالمغيب عثرت عيناه المتجولتان بحسناء مقبلة متأبطة ذراع رجل أنيق المنظر ، ترفل في ثوب رقيق شفاف ، تكاد حلمة ثديها تثقب أعلى فستانها الحريري ، وجذب صدرها الناهد عينيه فزادتا اتساعا ودهشة ، وهاله المنظر ، وكانت تقترب خطوة فخطوة حتى باتت على قيد ذراع.
وكان عقله – أو جنونه – يفكر بسرعة خيالية ، فخطر له أن يغمز هذه الحلمة الشاردة ! واعترض سبيلهما ، ومد يده بسرعة البرق ، وقرص ! آه لقد انهالت عليه اللطمات واللكمات ، وأحاط به كثيرون . ولكنهم في النهاية تركوه ! لعل ضحكته الجنونية أخافتهم ، ولعل نظرة عينيه المحملقتين أفزعتهم . تركوه على أية حال . ونجا ولم تكد تزداد حالته سوءاً ! وكان لا يزال به طموح إلى مزيد من المغامرات ، ولكن لاحت منه نظرة إلى ملابسه فهاله ما يرى من تمزقها وتهتكها . وبدلا من أن يأسى على نفسه راح يذكر مادار بخلده صباح اليوم أما المرآة ، فلاحت في عينيه نظرة غائبة ، وعاد يتساءل : لماذا يدع نفسه سجيناً في هذه اللفائف تشد على صدره وبطنه وساقيه ؟! وناء بثقلها ، وشعر لوطأتها باختناق ، فغليت مراجله ، ولم يستطع معها صبراً ، وأخذت يداه تنزعانها قطعة قطعة ، بلا تمهل ولا إبطاء ، حتى تخلص منها جميعا ، فبدا عارياً كما خلقه الله ، وعابثته ضحكته الغريبة ، فقهقه ضاحكاً ، واندفع في سبيله ... ( انتهت القصة)
ماالجنون ؟!
إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت ، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج . أما الباطن ، أما الجوهر ، فسر مغلق . وصاحبنا يعرف الآن أنه نزل ضيفاً بعض الوقت بالخانكة ، ويذكر –الآن أيضا- ماضي حياته كما يذكره العقلاء جميعا ، وكما يعرف حاضره . أما تلك الفترة القصيرة – قصيرة كانت والحمدلله – فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلا حائرا لايدري من أمرها شيئا تطمئن إليه النفس . كانت رحلة إلى عالم أثيري عجيب ، ملئ بالضباب ، تتخايل لعينيه منه وجوه لا تتضح ملامحها ، كلما حاول أن يسلط عليها بصيصا من نور الذاكرة ولت هاربة فابتلعتها الظلمة . ويجيء أذنيه منه أحيانا ما يشبه الهمهمة وما إن يرهف السمع ليميز مواقعها حتى تفر متراجعة تاركة صمتا وحيرة . ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم ، حتى الذين عاصروا عهدها العجيب قد أسدلوا عليها ستارا ، كثيفا من الصمت والتجاهل لحكمة لا تخفى ، فاندثرت دون أن يتاح لها مؤرخ أمين يحدث بأعاجيبها . تُرى كيف حدثت ؟! ومتى وقعت ؟ كيف أدرك الناس أن هذا العقل أصبح شيئاً غير العقل ؟ وأن صاحبه أمسى فرداً شاذا يجب عزله بعيدا عن الناس كأنه الحيوان المفترس؟!
كان إنسانا هادئا أخص ما يوصف به الهدوء المطلق . ولعل ذاك ما حبب إليه الجمود والكسل ، وزهده في الناس والنشاط. ولذلك عدل عن مرحلة التعليم في وقت باكر ، وأبى أن يعمل مكتفيا بدخل لا بأس به . وكانت لذته الكبرى أن يطمئن إلى مجلس منعزل على طوار القهوة فيشبك راحتيه على ركبته ، ويلبث ساعات متتابعات جامدا صامتا ، يشاهد الرائحين والغادين بطرف ناعس وجفنين ثقيلين ، لا يمل ولا يتعب ولا يجزع ، فعلى كرسيه من الطوار كانت حياته ولذته . ولكن وراء ذلك المظهر البليد الساكن حرارة أو حركة في قرارة النفس أو الخيال ، كان هدوءه شامل الظاهر والباطن ، الجسم والعقل ، الحواس والخيال ، كان تمثالاً من لحم ودم يلوح كأنما يشاهد الناس ، وهو بمعزل عن الحياة جميعاً.
ثم ماذا ؟!
حدث في الماء الآسن حركة غريبة فجائية كأنما أُلقي فيه بحجر.
كيف ؟!
رأى يوما – إذ هو مطمئن إلى كرسيه على الطوار – عمالا يملئون الطريق ، يرشون رملا أصفر فاقعاً يسر الناظرين ، بين يدي موكب خطير . ولأول مرة في حياته يستثير دهشته شيء فيتساءل : لماذا يرشون الرمل ؟ ثم قال لنفسه : إنه يثور فيملأ الخياشيم ويؤذي الناس ، وهم أنفسهم يرجعون سراعا فيكنسونه ويلمونه ، فلماذا يرشونه إذن ؟! وربما كان الأمر أتفه من أن يوجب التساؤل أو الحيرة ، ولكن تساؤله بدا له كأخطر حقيقة في حياته وقتذاك ، فخال أنه بصدد مسألة من مسائل الكون الكبرى ، ووجد في عملية الرش أولاً والكنس أخيرا والأذى فيما بين هذا وذاك حيرة أي حيرة ، بل أحس ميلاً إلى الضحك ، ونادراً ما كان يفعل ، فضحك ضحكا متواصلا حتى دمعت عيناه . ولم يكن ضحكه هذا محض انفعال طارئ ، فالواقع أنه كان نذير تغيير شامل ، خرج به من صمته الرهيب إلى حال جديدة ، ومضى يومه حائراً أو ضاحكاً ، يحدث نفسه فيقول كالذاهل : يرشون فيؤذون ثم يكنسون ... ها ها ها !
وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حيرته بعد . ووقف أما المرآة يهيئ من شأنه ، فوقعت عيناه على ربطة رقبته وسرعان ما أدركته حيرة جديدة . فتساءل : لماذا يربط رقبته على هذا النحو ؟ ما فائدة هذه الربطة ؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها ؟ وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس ، وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحيرة ودهشة ، ومضى يقلب عينيه في أجزاء من ملابسه جميعاً بإنكار وغرابة . ما حكمة تكفين أنفسنا على هذا الحال المضحك ؟ لماذا لا نخلع هذه الثياب ونطرحها أرضاً ؟ لماذا لا نبدو كما سوانا الله ؟ بيد أنه لم يتوقف عن ارتداء ملابسه حتى انتهى منها ، وغادر البيت كعادته.
ولم يعد يذوق هدوءه الكثيف الذي عاش في إهابه دهراً طويلا قانعاً مطمئنا. كيف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخناقه على رغمه ؟!
أجل على رغمه . وقد اجتاحته موجة غضب وهو يحث خطاه ، وكبر عليه أن يرضى بقيد على رغمه . أليس الإنسان حراً ؟ وتفكَّر ملياً ثم أجاب بحماس : بلى أنا حر . وملأه بغتة الشعور بالحرية ، وأضاء نور الحرية جوانب روحه حتى استخفه الطرب . أجل هو حر . نزلت عليه الحرية كالوحي فملأه يقينا لا سبيل إلى الشك فيه ، إنه حر يفعل ما يشاء كيف شاء حين يشاء ، غير مذعن لقوة أو خاضع لعلة لسبب خارجي أو باعث باطني. حل مسألة الإرادة في ثانية واحدة ، ,أنقذها بحماس فائق من وطأة العلل ، وداخله شعور بالسعادة والتفوق عجيب ، فألقى نظرة ازدراء على الخلق الذين يضربون في جوانب السبل مسيَّرين مصفدين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، إذا ساروا لم يملكوا أن يقفوا ، وإذا وقفوا لم يملكوا أن يسيروا ، أما هو فيسير إذا أراد ويقف حين يريد ، مزدرياً كل قوة أو قانون أو غريزة . وأهاب به شعوره الباهر أن يجرب قوته الخارقة فلم يستطع أن يعرض عن نداء الحرية . توقف عن مسيره بغتة وهو يقول لنفسه : ( ها أنا ذا أقف لغير ما سبب ) . ونظر فيما حوله في ثوان ثم تساءل : أيستطيع أن يرفع يديه إلى رأسه؟ أجل يستطيع ، وها هو ذا يرفع يديه غير مكترث لأحد من الناس. ثم تساءل مرة أخرى : هل تواتيه الشجاعة على أن يقف على قدم واحدة ؟ وقال لنفسه : فلم لا أستطيع وما عسى أن يعتاق حريتي ؟! وراح يرفع يسراه كأنه يقوم بحركة رياضية في أناة وعدم مبالاة كأنه وحده في الطريق بلا رقيب . وغمرت فؤاده طمأنينة سعيدة وملأته ثقة بالنفس لا حد لها ، فمضى يتأسف على ما فاته طوال عمره من فرض كانت جديرة بأن تمتعه بحريته وتسعده ، واستأنف مسيره وكأنه يستقبل الحياة من جديد .
ومر في طريقه إلى القهوة بمطعم كان يتناول فيه عشاءه في بعض الأحايين ، فرأى على طواره مائدة مليئة بما لذ وطاب . يجلس إليها ورجل وامرأة متقابلين يأكلان مريئا ويشربان هنيئاً ، وعلى بعد يسير جلس جماعة من غلمان السبل ، عرايا إلا من أسمال بالية ، تغشى وجوههم وبشرتهم طبقة غليظة من غبار وقذارة ، فلم يرتح لما بين المنظرين من تنافر ، وشاركته حريته عدم ارتياحه فأبت عليه أن يمر بالمطعم مرور الكرام . ولكن ما عسى أن يصنع؟ قال له فؤاده بعزم ويقين: ( ينبغي أن يأكل الغلمان مع الآخرين ) . ولكن الآكلين لا يتنازلان عن شيء من هذه الدجاجة أمامهما بسلام ، هذا حق لا ريب فيه ، أما إذا رمى بها إلى الأرض فتلوثت بالتراب فما من قوة تستطيع أن تحرم الغلمان إياها ، فهل ثمة مانع يمنعه من تحقيق رغبته ؟ .. هيهات ، وربما كان التردد ممكناً في زمن مضى ، أما الآن فمحال ... واقترب من المائدة بهدوء ، ومد يده إلى الطبق فتناول الدجاجة ، ثم رمى بها عند أقدام العرايا ، وتحول عن المائدة وسار إلى حال سبيله كأنما لم يأت أمراً منكرا ، غير عابئ بالزئير الذي يلاحقه مفعماً بأقذع السباب والشتائم ، بل غلبه الضحك على أمره ، فاسترسل ضاحكاً حتى دمعت عيناه . وتنهد بارتياح من الأعماق ، وعاوده شعوره العميق بالطمأنينة والثقة والسعادة.
وبلغ القهوة فمضى إلى كرسيه واطمأن إليه كعادته ، بيد أنه لم يستطع هذه المرة أن يشبك راحتيه حول ركبته ويستسلم لسكوته المعهود ، لم تطاوعه نفسه ، فقد فقدت قدرتها على الجمود ، أو برئت من عجزها عن الحركة فنبا به مجلسه ، حتى هم بالنهوض ، إلا أنه رأى – في تلك اللحظة- شخصاً غير غريب عن ناظريه وإن لم تصله به أسباب التعارف . كان من رواد المقهى مثله . وكان جسماً ضخماً وأوداجاً منتفخة ، يسير مرفوع الرأس في خيلاء ، ملقياً على ما حوله نظرة ترفع وازدراء ، تنطق كل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته بالزهو كأنما يثير الخلق في نفسه ما تثيره الديدان في نفس رقيقة مرهفة الحس ، وكأنه يراه لأول مرة . بدا له قبحه وشذوذه ، فغالبته هذه الضحكة الغريبة التي ما انفكت هذين اليومين تعابثه ، ولم تفارقه عيناه ، وثبتت خاصة على قفاه يبرز من البنيقة عريضاً ممتلئاً مغرياً . وتساءل : أيتركه يمر بسلام ؟! معاذ الله ، لقد ألف داعي الحرية ، وعاهده ألا يخالف له أمراً ، وهز منكبيه استهانة واقترب من الرجل فكاد يلاصقه ، ورفع يده ، وهوى بكفه على القفا بكل ما أوتي من قوة ، فرنت الصفعة رنيناً عالياً ، ولم يتمالك نفسه فأغرب ضاحكاً ،ولكن لم تنته هذه التجربة بسلام كأختها السابقة ، فالتفت الرجل نحوه في غضب جنوني ، وأمسك بتلابيبه وانهال عليه ضربا وركلاً حتى خلص بينهما بعض الجلوس . وفارق القهوة لاهثاً ، ومن عجب أنه لم يستشعر الغضب ولا الندم ، وعلى العكس من ذلك ألمت بحواسه لذة عجيبة لا عهد له بها من قبل ، وافترّ ثغره عن ابتسامة لا تزايله ، وفاضت نفسه بحيوية وسرور يغشيان أي ألم ، ولم يعد يكترث لشيء غير حريته التي فاز بها في لحظة من الزمان وأبى أن يغيب عنها ثانية واحدة من حياته ، ومن ثم ألقى بنفسه في تيار زاخر من التجارب الخطيرة بإرادة لا تنثني وقوة لا تقهر . صفح أقفية وبصق على وجوه وركل بطوناً وظهوراً ، ولم ينج في كل حال من اللكمات والسباب ، فحُطمت نظارته ومزق زر طربوشه وتهتك قميصه ونغصت ثنيتاه ، ولكنه لا ارتدع ولا ازدجر ولا انثنى عن سبيله المحفوف بالمخاطر ، ولا فارق الابتسام شفتيه ، ولا خمدت نشوة فؤاده الثمل ، ولو اعترض الموت طريقه لاقتحمه غير هيّـاب.
ولما آذنت الشمس بالمغيب عثرت عيناه المتجولتان بحسناء مقبلة متأبطة ذراع رجل أنيق المنظر ، ترفل في ثوب رقيق شفاف ، تكاد حلمة ثديها تثقب أعلى فستانها الحريري ، وجذب صدرها الناهد عينيه فزادتا اتساعا ودهشة ، وهاله المنظر ، وكانت تقترب خطوة فخطوة حتى باتت على قيد ذراع.
وكان عقله – أو جنونه – يفكر بسرعة خيالية ، فخطر له أن يغمز هذه الحلمة الشاردة ! واعترض سبيلهما ، ومد يده بسرعة البرق ، وقرص ! آه لقد انهالت عليه اللطمات واللكمات ، وأحاط به كثيرون . ولكنهم في النهاية تركوه ! لعل ضحكته الجنونية أخافتهم ، ولعل نظرة عينيه المحملقتين أفزعتهم . تركوه على أية حال . ونجا ولم تكد تزداد حالته سوءاً ! وكان لا يزال به طموح إلى مزيد من المغامرات ، ولكن لاحت منه نظرة إلى ملابسه فهاله ما يرى من تمزقها وتهتكها . وبدلا من أن يأسى على نفسه راح يذكر مادار بخلده صباح اليوم أما المرآة ، فلاحت في عينيه نظرة غائبة ، وعاد يتساءل : لماذا يدع نفسه سجيناً في هذه اللفائف تشد على صدره وبطنه وساقيه ؟! وناء بثقلها ، وشعر لوطأتها باختناق ، فغليت مراجله ، ولم يستطع معها صبراً ، وأخذت يداه تنزعانها قطعة قطعة ، بلا تمهل ولا إبطاء ، حتى تخلص منها جميعا ، فبدا عارياً كما خلقه الله ، وعابثته ضحكته الغريبة ، فقهقه ضاحكاً ، واندفع في سبيله ... ( انتهت القصة)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى